الرابعة:
قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) فيه أنه
ينبغي للمسلم أن يتوقى مباشرة ما يشتبه عليه ليحفظ دينه من الوقوع فيما حرم
الله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حرصا على هذا فقد روى أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال ( لولا أني أخاف أن تكون
من الصدقة لأكلتها ) متفق عليه ، وكان السلف الصالح يشددون في ذلك يتحرون
لدينهم قالت عائشة "كان لأبي بكر الصديق غلاما يخرج له الخراج وكان أبو بكر
يأكل من خراجه فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام تدري ما هذا
فقال أبو بكر ما هو قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني
خدعته فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في
بطنه " رواه البخاري. وهذا كله محمول على تمكن الشبهة وعدم ظهور الحكم في
المسألة أما إذا تبين للإنسان إباحة الشيء وزالت الشبهة عنه واطمأن قلبه لذلك
فلا حرج حينئذ من تعاطيه.
الخامسة:
فيد دليل على أن تبرئة العرض أمر مطلوب شرعا فينبغي على العبد أن يحرص على
الإبتعاد عن كل ما يدنس عرضه ويعرض سمعته أو أهله أو ذريته لقالة السوء ولهذا
ورد " أن ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة " وفيه دليل على أن من ارتكب الشبهات
فقد عرض نفسه للقدح والطعن قال بعض السلف " من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا
نفسه " ، بل يشرع للعبد أن يترك المباح استبراء لعرضه وخشية طعن الناس فيه كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين من الأنصار لما رأياه واقفا مع زوجه صفية
فأسرعا فقال لهما (على رسلكما إنها صفية ) أخرجاه في الصحيحين.
السادسة:
قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) خرجه العلماء
على وجهين:
الأول:
أن من تساهل في مباشرة الشبهات وكثر تعاطيه لها لا يأمن على نفسه إصابة الحرام
وإن لم يتعمد ذلك.
الثاني:
أن من اعتاد التساهل في ذلك وتمرن على الشبهات يتطور به الأمر إلى أن يتجرأ على
انتهاك المحرمات ويذهب عنه تعظيم الشعائر ، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال ( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به
بأس ) رواه الترمذي وحسنه.
السابعة:
حكم معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط على أحوال :
الأولى:
أن يكون الحرام أكثر ماله ويغلب عليه فهذا مكروه قال الإمام أحمد " ينبغي أن
يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا أو شيئا لا يعرف ". أما إذا علم تحريم شيء بعينه
فيحرم عليه تناوله إجماعا كما حكاه ابن عبد البر وغيره.
الثانية:
أن يكون الحلال أكثر ماله ويغلب عليه فيجوز معاملته والأكل من ماله بلا حرج ،
فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان " لا بأس بها ما يعطيكم
من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام " وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.
الثالثة:
أن يشتبه الأمر فلا يعرف أيهما أكثر الحلال أم الحرام فهذا شبهة والورع تركه
قال سفيان " لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي " وقال الزهري " لا بأس أن يأكل منه
مالم يعرف في ماله حرام بعينه " ونص أحمد على جواز الأكل مما فيه شبهة ولا يعلم
تحريمه.
الثامنة:
من سيب دابته ترعى قرب زرع غيره فأتلفته ضمن ما أفسدته من الزرع على الصحيح
لأنه مفرط في صيانتها وحفظها عن مال الغير وفي قوله صلى الله عليه وسلم (
كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) إشارة إلى ذلك.
التاسعة:
في الحديث دليل على قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الوقوع في المحرمات وتحريم
الوسائل إليها ، وكذلك يدل على اعتبار قاعدة " درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح " بالتباعد مما يخاف الوقوع فيه وإن ظن السلامة في مقاربته.
العاشرة:
يستفاد من الحديث أن موقف الناس تجاه الشبهات على أقسام:
1-
من يتقي هذه الشبهات لإشتباهها عليه فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.
2-
من يقع في الشبهات فهذا قد عرض نفسه للوقوع في الحرام.
3-
من كان عالما بحكمها واتبع ما دله علمه فيها ولم يذكره النبي صلى الله عليه
وسلم لظهور حكمه وهذا القسم هو أفضل الأقسام الثلاثة لأنه علم حكم الله في هذه
المشتبهات وعمل بعلمه.
الحادية عشرة:
الحديث يدل على عظم القلب وأهميته لأن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه
المحرمات واتقائه الشبهات بحسب صلاح حركة قلبه فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا
محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات
الجوارح كلها وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى عبدا للشهوات
وأسره حب الدنيا فسدت حركات الجوارح كلها ، ولهذا يقال القلب ملك الأعضاء وبقية
الأعضاء جنوده مطيعون لأوامره لا يخالفونه في شيء . ولا ينفع عند الله يوم
القيامة إلا القلب السليم قال تعالى ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه ( أسألك قلبا
سليما ) رواه أحمد ، والقلب السليم هو السالم من الشبهات والشهوات. وذكر النبي
صلى الله عليه وسلم للقلب في ختام حديثة إشارة إلى أن اتقاء الشبهات سببه صلاح
القلب والوقوع فيها منشأه ضعف القلب وفساده والله المستعان.
الثانية عشرة:
صلاح القلب يكون بالأعمال الشرعية والعبادات القلبية .فلا صلاح للقلوب حتى
تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ورجاؤه والتوكل عليه وتمتلئ من ذلك
وهذا هو حقيقة التوحيد أن يكون القلب يأله ويتوجه ويقصد الله وحده لا شريك له
وينصرف عما سواه ، ولو كان في السماوات والأرض إلها سواه لفسدت بذلك كم قال
تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم
العلوي والسفلي حتى تكون حركات أهلها كلها لله . قال الحسن البصري لرجل " داو
قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ". وقال محمد البلخي " ما خطوت منذ
أربعين سنة لغير الله عز وجل ". وقال الحسن " ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني
ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية فإن كانت طاعة
تقدمت وإن كانت معصية تأخرت ".
بقلم : خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة